مسيرأم مخير
هذا السؤال الذي غلا في أوله أناس فألحدوا وغلا في آخره أناس فأرجأوا وثبت الله به أناسا على دينه لما أخلصوا
وعقلوا أن الإجابة ليست واحدة دون أخرى بل أنهم مخيرون ومسيرون معا إذ لا تناقض بينهما كما قد يظن البعض في ظاهر اللفظ.
ولا يخفى على عاقل أن الإنسان مخير في شؤون ذاته كلها وهذا ما جعل للملحدين حجة في زعمهم لإنكار مشيئة الله ومن ثم إنكار ذاته، ونقول أن اختيار الإنسان محدود أكثره فيما يتعلق بذاته وقليل فيما يتعلق بغيره، ولما كان ذلك كذلك فإن الإنسان مؤثر في عموم البشرية بأفعاله ومتأثر بأفعال باقي البشر وعليه ينتفي كونه مخيرا فقط بغض النظر عن كنه مسيره.
ولما كان إيماننا بالله ليس مبعثه هذه القضية فقط بل أمور أعظم منها وإنما هي قضية تشكيك لما في عقول الناس من عجز عن إدراكها، فإننا ندرك أن أفعال الناس تنتج عن عزيمة وقدرة، والله خالق الناس وقدرتهم وعزيمتهم فهو خالق أفعالهم ضمنا لكنه مخيرهم وواهبهم عقلا ليميزوا به ويحاسبوا على اختيارهم، فهو مخيرهم في أفعالهم التي يعلمها بعلمه الأزلي قبل وقوعها، مسيرهم بأفعال غيرهم والتي هي من خلقه أصلا، ويضاف إلى هذا الحوادث الكونية التي لا دخل للإنسان بتا كالزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها مما لا سلطة لبشر عليها.
إن القول بأن الإنسان مخير فقط يقتضي فيه كمال الإدراك وانتفاء جوانب النقص والتأثر والحاجة كالنوم مثلا، فالنوم ليس باختيار الإنسان بل هو حاجة وفوق ذلك يحجب الإنسان عن الاختيار، وكذا كل مذهب للعقل كالسكر والجنون والصغر، فلا يكون اختيار إلا بتحكيم عقل، فإذا انتفى العقل انتفى التخيير ومن ثم انتفت المحاسبة على الفعل إذ أنه حال انتفاء التخيير يبقى التسيير والذي إذا انفرد بالعبد لم يؤاخذ على أفعاله ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاث: عن الصَّبِى حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ".
فإن نحن تدبرنا الأمر وجدنا أن الله قدسير الإنسان قبل أن يخيره ولا ينكر هذا إلا جاحد أو غبي وإلا فمن الذي سير الإنسانلوجوده ومن الذي سيره في طفولته ومن الذي يسير النائم والمجنون، فإن قال أحدهم أنالحوادث هي التي سيرته فإنه بهذا يدرك أن الإنسان مسير ومخير، ويبقى لنا أن نثبت لهأن الذي خلق وسير الحوادث هو الله بعيدا عن هذا الباب الذي أثاره ثمخسره.
منقول للفائدة